فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وكأيِّنْ مِنْ قرْيةٍ عتتْ عنْ أمْرِ ربِّها ورُسُلِهِ فحاسبْناها حِسابا شدِيدا}
لما ذكر سبحانه ما تقدّم من الأحكام، حذّر من مخالفتها، وذكر عتوّ قوم خالفوا أوامره، فحلّ بهم عذابه، فقال: {وكأِيّن مّن قرْيةٍ عتتْ عنْ أمْرِ ربّها ورُسُلِهِ} يعني: عصت، والمراد: أهلها، والمعنى: وكم من أهل قرية عصوا أمر الله ورسله، أو أعرضوا عن أمر الله ورسله على تضمين {عتت} معنى أعرضت، وقد قدّمنا الكلام في {كأين} في سورة آل عمران وغيرها {فحاسبناها حِسابا شدِيدا} أي: شددنا على أهلها في الحساب بما عملوا.
قال مقاتل: حاسبها الله بعملها في الدنيا فجازها بالعذاب، وهو معنى قوله: {وعذبناها عذابا نُّكْرا} أي: عذبنا أهلها عذابا عظيما منكرا في الآخرة، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي: عذبنا أهلها عذابا نكرا في الدنيا بالجوع والقحط، والسيف والخسف والمسخ، وحاسبناهم في الآخرة حسابا شديدا.
والنكر: المنكر {فذاقتْ وبال أمْرِها} أي: عاقبة كفرها {وكان عاقبة أمْرِها خُسْرا} أي: هلاكا في الدنيا وعذابا في الآخرة.
{أعدّ الله لهُمْ عذابا شدِيدا} في الآخرة، وهو عذاب النار، والتكرير للتأكيد {فاتقوا الله ياأولى الألباب} أي: يا أولي العقول الراجحة، وقوله: {الذين آمنوا} في محل نصب بتقدير أعني بيانا للمنادى بقوله: {يأُوْلِي الألباب} أو عطف بيان له أو نعت {قدْ أنزل الله إِليْكُمْ ذِكْرا رسُولا} قال الزجاج: إنزال الذكر دليل على إضمار أرسل، أي: أنزل إليكم قرآنا، وأرسل إليكم رسولا، وقال أبو عليّ الفارسي: إن {رسولا} منصوب بالمصدر، وهو {ذكرا}؛ لأن المصدر المنوّن يعمل.
والمعنى: أنزل إليكم ذكر الرسول.
وقيل: إن {رسولا} بدل من {ذكرا}؛ وكأنه جعل الرسول نفس الذكر مبالغة، وقيل: إنه بدل منه على حذف مضاف من الأوّل تقديره: أنزل ذا ذكر رسولا، أو صاحب ذكر رسولا.
وقيل: إن {رسولا} نعت على حذف مضاف أي: ذكرا ذا رسول، فذا رسول نعت للذكر.
وقيل: إن {رسولا} بمعنى رسالة، فيكون {رسولا} بدلا صريحا من غير تأويل، أو بيانا.
وقيل: إن {رسولا} منتصب على الإغراء، كأنه قال: الزموا رسولا، وقيل: إن الذكر ها هنا بمعنى الشرف كقوله: {لقدْ أنزلْنا إِليْكُمْ كتابا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10] وقوله: {وإِنّهُ لذِكْرٌ لّك ولِقوْمِك} [الزخرف: 44].
ثم بيّن هذا الشرف فقال: {رسُولا} وقد ذهب الأكثر إلى أن المراد بالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الكلبي: هو جبريل، والمراد بالذكر القرآن، ويختلف المعنى باختلاف وجوه الإعراب السابقة، كما لا يخفى.
ثم نعت سبحانه الرسول صلى الله عليه وسلم المذكور بقوله: {يتْلُواْ عليْكُمْ آيات الله مبينات} أي: حال كونها مبينات، قرأ الجمهور: {مبينات} على صيغة اسم المفعول، أي: بيّنها الله وأوضحها، وقرأ ابن عامر، وحفص، وحمزة، والكسائي على صيغة اسم الفاعل أي: الآيات تبيّن للناس ما يحتاجون إليه من الأحكام.
ورجّح القراءة الأولى أبو حاتم، وأبو عبيد لقوله: {قدْ بيّنّا لكُمُ الآيات} [آل عمران: 118] {لّيُخْرِج الذين ءامنُواْ وعمِلُواْ الصالحات مِن الظلمات إِلى النور} اللام متعلقة بـ: {يتلو} أي: ليخرج الرسول الذي يتلو الآيات الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ظلمات الضلالة إلى نور الهداية، ويجوز أن تتعلق اللام بـ: {أنزل}، فيكون المخرج هو الله سبحانه {ومن يُؤْمِن بالله ويعْملْ صالحا} أي: يجمع بين التصديق والعمل بما فرضه الله عليه مع اجتناب ما نهاه عنه {ندخله جنات تجْرِى مِن تحْتِها الأنهار} قرأ الجمهور: {يدخله} بالتحتية، وقرأ نافع، وابن عامر بالنون، وجمع الضمير في {خالدين فِيها أبدا} باعتبار معنى من، ووحّده في {يدخله} باعتبار لفظها، وجملة: {قدْ أحْسن الله لهُ رِزْقا} في محل نصب على الحال من الضمير في {خالدين} على التداخل، أو من مفعول {يدخله} على الترادف؛ ومعنى {قدْ أحْسن الله لهُ رِزْقا} أي: وسع له رزقه في الجنة.
{الله الذي خلق سبْع سموات} الاسم الشريف مبتدأ، وخبره الموصول مع صلته {ومِن الأرض مِثْلهُنّ} أي: وخلق من الأرض مثلهنّ يعني: سبعا.
واختلف في كيفية طبقات الأرض.
قال القرطبي في تفسيره: واختلف فيهنّ على قولين: أحدهما، وهو قول الجمهور: أنها سبع أرضين طباقا بعضها فوق بعض، بين كل أرض وأرض مسافة، كما بين السماء والأرض، وفي كل أرض سكان من خلق الله.
وقال الضحاك: إنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق بخلاف السموات.
والأوّل أصح؛ لأن الأخبار دالة عليه في الترمذي، والنسائي، وغيرهما، وقد مضى ذلك مبينا في البقرة قال: وفي صحيح مسلم عن سعيد بن زيد قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «من أخذ شبرا من الأرض ظلما فإنه يطوّقه يوم القيامة من سبع أرضين» إلى آخر كلامه، وسيأتي في آخر البحث ما يقوّي قول الجمهور.
قرأ الجمهور: {مثلهنّ} بالنصب عطفا على {سبْع سموات} أو على تقدير فعل، أي: وخلق من الأرض مثلهنّ.
وقرأ عاصم في رواية عنه بالرفع على الابتداء، والجار والمجرور قبله خبره {يتنزّلُ الأمر بيْنهُنّ} الجملة مستأنفة، ويجوز أن تكون صفة لما قبلها، والأمر: الوحي.
قال مجاهد: يتنزل الأمر من السموات السبع إلى السبع الأرضين.
وقال الحسن: بين كل سماء وبين الأرض.
وقال قتادة: في كل أرض من أرضه، وسماء من سمائه خلق من خلقه وأمر من أمره، وقضاء من قضائه، وقيل: بينهنّ إشارة إلى ما بين الأرض السفلى التي هي أدناها، وبين السماء السابعة التي هي أعلاها، وقيل: هو ما يدبر فيهنّ من عجيب تدبيره، فينزل المطر ويخرج النبات، ويأتي بالليل والنهار، والصيف والشتاء، ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيئاتها، فينقلهم من حال إلى حال.
قال ابن كيسان: وهذا هو مجال اللغة واتساعها، كما يقال للموت: أمر الله وللريح والسحاب، ونحوها.
قرأ الجمهور: {يتنزل الأمر} من التنزل، ورفع الأمر على الفاعلية، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه: {ينزل} من الإنزال، ونصب الأمر على المفعولية، والفاعل الله سبحانه، واللام في {لّتعْلمُواْ أنّ الله على كُلّ شيء قدِيرٌ} متعلق بـ: {خلق}، أو بـ: {يتنزل}، أو بمقدّر، أي: فعل ذلك؛ لتعلموا كمال قدرته، وإحاطته بالأشياء، وهو معنى {وأنّ الله قدْ أحاط بِكُلّ شيء عِلْما} فلا يخرج عن علمه شيء منها كائنا ما كان، وانتصاب علما على المصدرية؛ لأن أحاط بمعنى علم، أو هو صفة لمصدر محذوف أي: أحاط إحاطة علما، ويجوز أن يكون تمييزا.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {فحاسبناها حِسابا شدِيدا} يقول: لم ترحم {وعذبناها عذابا نُّكْرا} يقول: عظيما منكرا.
وأخرج ابن مردويه عنه: {قدْ أنزل الله إِليْكُمْ ذِكْرا رسُولا} قال: محمدا صلى الله عليه وسلم.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال له رجل: {الله الذي خلق سبْع سموات ومِن الأرض مِثْلهُنّ} إلى آخر السورة، فقال ابن عباس: ما يؤمنك أن أخبرك بها فتكفر؟ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب من طريق أبي الضحى عن ابن عباس في قوله: {ومِن الأرض مِثْلهُنّ} قال: سبع أرضين في كلّ أرض نبيّ كنبيكم، وآدم كآدم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى، قال البيهقي: هذا إسناده صحيح، وهو شاذّ بمرّة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعا.
وأخرج ابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الأرضين بين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، والعليا منها على ظهر حوت قد التقى طرفاه في السماء، والحوت على صخرة، والصخرة بيد ملك. والثانية مسجن الريح، فلما أراد الله أن يهلك عادا أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحا يهلك عادا، فقال: يا ربّ أرسل عليهم من الريح قدر منخر الثور؟ فقال له الجبار: إذن تكفأ الأرض ومن عليها، ولكن أرسل عليهم بقدر خاتم فهي التي قال الله في كتابه: {ما تذرُ مِن شيء أتتْ عليْهِ إِلاّ جعلتْهُ كالرميم} [الذاريات: 42] والثالثة فيها حجارة جهنم، والرابعة فيها كبريت جهنم، فقالوا: يا رسول الله للنار كبريت؟ قال: نعم، والذي نفسي بيده؛ إن فيها لأودية من كبريت لو أرسل فيها الجبال الرواسي لماعت» إلى آخر الحديث.
قال الذهبي متعقبا للحاكم: هو حديث منكر.
وأخرج عثمان بن سعيد الدارمي عن ابن عباس قال: سيد السموات السماء التي فيها العرش، وسيد الأرضين الأرض التي نحن فيها. اهـ.

.قال القاسمي:

سورة الطلاق:
بِسْمِ الله الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{يا أيُّها النّبِيُّ إِذا طلّقْتُمُ النِّساء فطلِّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ} أي: في وقتها، وهو الطُّهر. فاللام للتأقيت.
قال الناصر: جعلت العدة، وإن كان في الأصل مصدرا ظرفا للطلاق المأمور به. وكثيرا ما تستعمل العرب المصادر ظرفا مثل خفوق النجم، ومقدم الحاج. وإذا كانت العدة ظرفا للطلاق المأمور به، وزمانه هو الطهر، فللطهر عدة إذا.
قال ابن جرير: أي: إذا طلقتم نساءكم فطلقوهن لطهرهن الذي يحصينه من عدتهن طاهرا من غير جماع. ولا تطلقوهن بحيضهن الذي لا يعتددن به من قرئهن.
ثم روي عن قتادة قال: العدة أن يطلقها طاهرا من غير جماع، تطليقة واحدة.
قال ابن كثير: ومن هنا أخذ الفقهاء أحكام الطلاق وقسموه إلى: طلاق سنّة، وطلاق بدعة، فطلاق السّنة أن يطلقها طاهرة من غير جماع، أو حاملا قد استبان حملها. والبدعي هو أن يطلقها في حال الحيض، أو في طهر قد جامعها فيه، ولا يدري أحملت أم لا. وطلاق ثالث لا سنّة فيه ولا بدعة، وهو طلاق الصغيرة والآيسة، وغير المدخول بها، وسيأتي في التنبيهات زيادة على هذا.
{وأحْصُوا الْعِدّة} أي: اضبطوها وأكملوها ثلاثة أقراء {واتّقُوا الله ربّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنّ مِن بُيُوتِهِنّ} أي: اتقوه في تعدي حدوده في المطلقات، فلا تخرجوهن من بيوتهن التي كنتم أسكنتموهن فيها قبل الطلاق، غضبا عليهن، وكراهة لمساكنتهن؛ لأن لهن حق السكنى، حتى تنقضي عدتهن.
{ولا يخْرُجْن} أي: باستبدادهن من تلقاء أنفسهن.
قال الناصر: قوله تعالى: {واتّقُوا الله ربّكُمْ} توطئة لقوله: {لا تُخْرِجُوهُنّ مِن بُيُوتِهِنّ} حتى كأنه نهي عن الإخراج مرتين: مندرجا في العموم، ومفردا بالخصوص. وقد تقدمت أمثاله.
{إِلاّ أن يأْتِين بِفاحِشةٍ مُّبيِّنةٍ} أي: فإنهن يخرجن. والفاحشة الزنا، أو أن تبذو المطلقة على أهلها، أو هي كل أمر قبيح تُعدّي فيه حده، فيدخل فيه الزنا والسرقة والبذاء على الأحماء ونحوها، والأخير مختار ابن جرير، وقوفا مع عموم اللفظ الكريم.
{وتِلْك حُدُودُ الله ومن يتعدّ حُدُود الله فقدْ ظلم نفْسهُ} أي: بتعريضها للعقاب بما أكسبها من الوزر. أو أضرّ بها بما اكتسبت من قوة النفار، وشدة البغضة التي قد تتفاقم فتعسر الرجعة، مع أن الأولى تخفيف الشنآن، وتلافي الهجران، وهو الأظهر؛ ولذا قال سبحانه: {لا تدْرِي لعلّ الله يُحْدِثُ بعْد ذلِك أمْرا} فإنه استئناف مسوق لتعليل مضمون الشرطية.
قال أبو السعود: وقد قالوا: إن الأمر الذي يحدثه الله تعالى، أن يقلب قلبه عما فعله بالتعدي إلى خلافه، فلابد أن يكون الظلم عبارة عن ضرر دنيوي يلحقه بسبب تعديه، ولا يمكن تداركه، أو عن مطلق الضرر الشامل الدنيوي والأخروي. ويخص التعليل بالدنيوي لكون احتراز الناس منه أشد، واهتمامهم بدفعه أقوى.
وقوله تعالى: {لا تدْرِي} خطاب للمتعدي بطريق الالتفات، لمزيد الاهتمام بالزجر عن التعدي، لا للنبي صلى الله عليه وسلم، كما توهم فالمعنى: ومن يتعد حدود الله فقد أضرّ بنفسه، فإنك لا تدري أيها المتعدي عاقبة الأمر، لعل الله يحدث في قلبك بعد ذلك الذي فعلت من التعدي، أمرا يقتضي خلاف ما فعلته، فيبدل ببغضها محبة، وبالإعراض عنها إقبالا إليها، ويتسنى تلافيه رجعة، أو استئناف نكاح. انتهى.
تنبيهات:
الأول: قال في (الإكليل): فسر النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {لِعِدّتِهِنّ} «بأن تطلق في طهر لم يجامع فيه» أخرجه البخاري ومسلم، وفي لفظ مسلم أنه قرأ: {فطلقوهن في قبل عدتهن} فاستدل الفقهاء بذلك على أن طلاق السنة ما ذكر، وأن الطلاق في الحيض أو طهر جومعت فيه بدعي حرام. واستدل قوم بالآية على عدم وقوعه في الحيض.
الثاني: في (الإكليل): في قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنّ مِن بُيُوتِهِنّ} وجوب السكنى لها ما دامت في العدة، وتحريم إخراجها أو خروجها {إِلاّ أن يأْتِين بِفاحِشةٍ مُّبيِّنةٍ} كسوء الخلق، والبذاءة على أحمائها. فتنتقل.
الثالث: في (الإكليل): استدل بقوله تعالى: {لعلّ الله يُحْدِثُ بعْد ذلِك أمْرا} من لم يوجب السكنى بغير الرجعة. أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن وعكرمة قال: المطلقة ثلاثا، والمتوفى عنها لا سكنى لها ولا نفقة، لقوله: {لعلّ الله يُحْدِثُ بعْد ذلِك أمْرا} فما يحدث بعد الثلاث.
الرابع: كما قال بعض الحكماء: إذا استحال الوفاق بين الزوجين، ولم يبق في الإمكان إصلاح، وصمم الزوج عليه؛ لأن وجود شخصين متنافري الطباع متباغضين، لا ينظر أحدهما إلى الآخر إلا ويحسّ في نفسه بالنفور، وفي قلبه بالعداوة، يسعى كل منهما في أذى صاحبه شرٌّ وفساد يجب محوه وقطعه. انتهى.
وقال ابن القيم في (إغاثة اللهفان): إن الله سبحانه وتعالى لما كان يبغض الطلاق، لما فيه من كسر الزوجة، وموافقة رضا عدوّه إبليس، حيث يفرح بمفارقة طاعة الله بالنكاح الذي هو واجب أو مستحب، وتعريض كل من الزوجين للفجور والمعصية، وغير ذلك من مفاسد الطلاق، وكان مع ذلك يحتاج إليه الزوج أو الزوجة، وتكون المصلحة فيه شرعه على وجه يحصل به المصلحة وتندفع به المفسدة، وحرمه على غير ذلك الوجه، فشرعه على أحسن الوجوه وأقربها لمصلحة الزوج والزوجة، فشرع له أن يطلقها طاهرا من غير جماع طلقة واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، فإن زال الشر بينهما، وحصلت الموافقة، كان له سبيل إلى لمّ الشعث، وإعادة الفراش كما كان، وإلا تركها حتى انقضت عدتها، فإن تبعتها نفسه كان له سبيل إلى خطبتها، وتجديد العقد عليها برضاها، وإن لم تتبعها نفسه، تركها فنكحت من شاءت.
وجعل العدة ثلاثة قروء ليطول زمن المهلة والاختيار، فهذا هو الذي شرعه وأذن فيه، ولم يأذن في إبانتها بعد الدخول إلا بالتراضي بالفسخ والافتداء، فإذا طلقها مرة بعد مرة بقي له طلقة واحدة. فإذا طلقها الثالثة حرمها عليه، عقوبة له، ولم يحل له أن ينكحها حتى تنكح زوجا غيره، ويدخل بها ثم يفارقها بموت أو طلاق. فإذا علم أن حبيبه يصير إلى غيره، فيحظى به دونه، أمسك عن الطلاق. انتهى.
ومباحث الطلاق وفروعه تجدر مراجعتها من (إغاثة اللهفان) و(زاد المعاد) لابن القيم، و(فتاوي ابن تيمية) شيخه. ومن لم يقف على ما حرراه وجاهدا في الصدع به، فإنه علم غزير، وفرقان منير، وبالله التوفيق.
الخامس: استدل بهذه الآيات من قال: إن جمع الطلاق في دفعة واحدة غير مشروع. قال الإمام ابن القيم في (إغاثة اللهفان): ووجه الاستدلال بالآية من وجوه:
أحدها: أنه تعالى إنما شرع أن تطلق لعدتها، أي: لاستقبال عدتها، فيطلق طلاقا يتعقبه شروعها في العدة، ولهذا «أمر عليه السلام عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، لما طلق امرأته»، أن يراجعها، وتلا هذه الآية تفسيرا للمراد بها، وأن المراد بها الطلاق في قبل العدة. وكذلك كان يقرؤها عبد الله بن عمر، ولهذا قال كل من قال بتحريم جمع الثلاث: إنه لا يجوز له أن يردف الطلقة بأخرى في ذلك الطهر أنه غير مطلق للعدة، فإن العدة قد استقبلت من حين الطلقة الأولى، فلا تكون الثانية للعدة، فلا يكون مأذونا فيها، فإن العدة إنما تحسب من الطلقة الأولى؛ لأنها طلاق للعدة بخلاف الثانية والثالثة. ومن جعله مشروعا قال: هو الطلاق لتمام العدة، والطلاق لتمام العدة، والطلاق لتمامها كالطلاق لاستقبالها، وكلاهما طلاق للعدة. وأصحاب القول الأول يقولون: المراد بالطلاق للعدة الطلاق لاستقبالها، كما في القراءة الأخرى التي تفسر القراءة المشهورة: {فطلقوهن في قبل عدتهن} قالوا: فإذا لم يشرع إرداف الطلاق للطلاق، قبل الرجعة، أو العقد، فأن لا يشرع جمعه معه أولى وأحرى. فإرداف الطلاق أسهل من جمعه، ولهذا شرع الإرداف في الأطهار من لا يجوّز الجمع في الطهر الواحد.
وقد احتج عبد الله بن عباس على تحريم جمع الثلاث بهذه الآية. قال مجاهد: كنت عند ابن عباس فجاء رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا، فسكت حتى ظننت أنه رادّها. ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس! وإن الله عز وجل قال: {ومن يتّقِ الله يجْعل لّهُ مخْرجا}، فما أجد لك مخرجا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، وإن الله عز وجل قال: {يا أيُّها النّبِيُّ إِذا طلّقْتُمُ النِّساء فطلِّقُوهُنّ} في قبل عدتهن. وهذا حديث صحيح ففهم ابن عباس من الآية أن جمع الثلاث محرم، وهذا فهم من دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يفقّهه في الدين، ويعلمه التأويل، وهو من أحسن الفهوم كما تقرر.
الوجه الثاني: من الاستدلال بالآية قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنّ مِن بُيُوتِهِنّ ولا يخْرُجْن} وهذا هو إنما في الطلاق الرجعيّ، فأما البائن فلا سكنى لها ولا نفقة، لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة التي لا يطعن في صحتها، الصريحة التي لا شبهة في دلالتها، فدل على أن هذا حكم كل طلاق شرعه الله تعالى، ما لم تسبقه طلقتان قبله؛ ولهذا قال الجمهور: إنه لا يشرع له، ولا يملك إبانتها بطلقة واحدة بدون العوض. وأبو حنيفة قال: يملك ذلك؛ لأن الرجعة حقه، وقد أسقطها. والجمهور يقولون: ثبوت الرجعة، وإن كان حقا له، فلها عليه حقوق الزوجية فلا يملك إسقاطها إلا بمخالعة، أو باستيفاء العدد، كما دل عليه القرآن.
الوجه الثالث: أنه قال: {وتِلْك حُدُودُ الله ومن يتعدّ حُدُود الله فقدْ ظلم نفْسهُ} فإذا طلقها ثلاثا جملة واحدة، فقد تعدى حدود الله فيكون ظالما.
الوجه الرابع: أنه سبحانه قال: {لا تدْرِي لعلّ الله يُحْدِثُ بعْد ذلِك أمْرا} وقد فهم أعلم الأمة بالقرآن، وهم الصحابة، أن الأمر هنا هو الرجعة. قالوا: وأي أمر يحدث بعد الثلاث؟
الوجه الخامس: قوله تعالى: {فإِذا بلغْن أجلهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمعْرُوفٍ أوْ فارِقُوهُنّ بِمعْرُوفٍ} فهذا حكم كل طلاق شرعه، إلا أن يسبق بطلقتين قبله. وقد احتج ابن عباس على تحريم جمع الثلاث بقوله تعالى: {يا أيُّها النّبِيُّ إِذا طلّقْتُمُ النِّساء فطلِّقُوهُنّ} في قبل عدتهن كما تقدم، وهذا حق؛ فإن الآية إذا دلت على منع إرداف الطلاق في طهر أو أطهار، قبل رجعة أو عقد- كما تقدم- لأنه يكون مطلقا في غير قبل العدة- فلأن تدل على تحريم الجمع، أولى وأحرى.
قالوا: والله سبحانه شرع الطلاق على أيسر الوجوه وأرفقها بالزوج والزوجة، لئلا يتسارع العبد في وقوعه ومفارقة حبيبه، وقد وقّت للعدة أجلا لاستدراك ألفاظه بالرجعة، فلم يبح له أن يطلق المرأة في حال حيضها، لأنه وقت نفرته عنها، وعدم قدرته على استمتاعه بها، ولا عقيب جماعها، لأنه قد قضى غرضه منها، وربما فترت رغبته فيها، ويزهد في إمساكها لقضاء وطره، فإذا طلقها في هاتين الحالتين ربما يندم بعد هذا، مع ما في الطلاق من تطويل العدة، وعقيب الجماع من بعلها، لأنه ربما قد اشتمل رحمها على ولد منه، فلا يريد فراقها. فأما إذا حاضت ثم طهرت، فنفسه تتوق إليها، لطول عهده بجماعه، فلا يقدم على طلاقها في هذه الحالة إلا لحاجة إليه؛ فلم يبح له الشارع أن يطلقها إلا في هذه الحال، أو في حال استبانة حملها، لأن إقدامه أيضا على طلاقها في هذه الحال دليل على حاجته إلى الطلاق وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا بمنعه لعبد الله بن عمر أن يطلق في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلق فيه، بل أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، إن بدا له أن يطلقها فيطلقها. وفي ذلك عدة حكم:
منها: أن الطهر المتصل بالحيضة، هو وهي حكم القرء الواحد، فإذا طلقها في ذلك الطهر، فكأنه طلقها في الحيضة، لاتصاله بها، وكونه معها، كالشيء الواحد.
الثانية: أنه لو أذن له في طلاقها في ذلك الطهر، فيصير كأنه راجع لأجل الطلاق، وهذا ضد مقصود الرجعة. فإن الله تعالى إنما شرعها للإمساك ولمنفعة النكاح، وعود الفراش، فلا يكون لأجل الطلاق، فيكون كأنه راجع ليطلق. وإنما شرعت الرجعة ليمسك. وبهذا بعينه أبطلنا نكاح المحلل، فإن الله سبحانه وتعالى شرع النكاح للإمساك والمعاشرة، والمحلل تزوج ليطلق، فهو مضاد لله تعالى في شرعه ودينه.
الثالثة: إنه إذا صبر عليها حتى تحيض ثم تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، زال ما في نفسه من الغضب الحامل له على الطلاق، وربما صلحت الحال بينهما، وأقلعت عما يدعوه إلى الطلاق، فيكون تطويل هذه المدة رحمة به وبها. وإذا كان الشارع ملتفتا إلى مثل هذه الرحمة والشفقة على الزوج، وشرع الطلاق على هذا الوجه الذي هو أبعد شيء عن الندم، فكيف يليق بشرعه أن يشرع إبانتها وتحريمها عليه بكلمة واحدة يجمع فيها ما شرعه متفرقا، بحيث لا يكون له سبيل إليها. وكيف يجتمع في حكمة الشارع، وحكمة هذا وهذا؟ فهذه الوجوه ونحوها مما بيّن بها الجمهور أن جمع الثلاث غير مشروع، هي بعينها تعيّن عدم الوقوع، وأنه إنما يقع المشروع وحده، وهي الواحدة.
{فإِذا بلغْن} أي: المطلقات اللواتي في عدة {أجلهُنّ} يعني آخر العدة. أي: إذا قرب انقضاؤه وشارفنه {فأمْسِكُوهُنّ بِمعْرُوفٍ} أي: فراجعوهن بما أمركم الله به من الحقوق التي أوجبها الله لهن من النفقة والكسوة والمسكن وحسن الصحبة {أوْ فارِقُوهُنّ بِمعْرُوفٍ} أي: اتركوهن حتى تنقضي عددهن فيبنّ منكم بمعروف، وهو إيفاؤهن ما لهن من حق، كالصداق والمتعة، على ما أوجب عليه لهن.
{وأشْهِدُوا ذويْ عدْلٍ مِّنكُمْ} أي: أشهدوا عند الرجعة والفرقة من يرضي دينهما وأمانتهما.
قال ابن عباس: فإن راجعها فهي عنده على تطليقتين، وإن لم يراجعها، فإذا انقضت عدتها فقد بانت منه بواحدة، وهي أملك بنفسها، ثم تتزوج من شاءت هو أو غيره.
وهذا الإشهاد على المراجعة والطلاق مندوب، ومنهم من ذهب إلى وجوبه عليهما، ومنهم من فرق بين المراجعة فأوجبه فيها وبين الطلاق فاستحبه. وظاهر الأمر في الآية الوجوب فيهما، والترجيح يجب أن يكون بدليل مرجح. ومما يؤيد الوجوب أن الأوامر في الآية كلها، قبل وبعد، للوجوب إجماعا، ولا دليل يصرف الأمر بالإشهاد عن ظاهره، فبقي كسابقه ولاحقه، وإن كان القرآن لا يفيد المشاركة في الحكم، إلا أنه عاضد ومؤيد، إذا لم يوجد صارف. ثم الأمر بالإشهاد عند الطلاق يدل على أن الحلف بالطلاق، أو تعليق وقوعه بأمر كله مما لا يعدّ طلاقا في الشرع، لأن ما طلب فيه الإشهاد، لابد أن ينوي فيه إيقاعه ويعزم عليه ويتهيأ له، وجدير بعصمة ينوي حلها، وكانت معقودة أوثق عقد، أن يشهد عليه، بعد أن يسبقها مراجعة من حكمين من قبل الزوجين، كما أشارت إليه آية الحكم؛ فليتدبر الطلاق المشروع، والطلاق المبتدع، وبالله التوفيق.
قال الزمخشري: قيل: فائدة الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد، وأن لا يتهم في إمساكها، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث.
{وأقِيمُوا الشّهادة لله} أي: لوجهه خالصا، وذلك أن يقيموها لا للمشهود له، ولا للمشهود عليه، ولا لغرض من الأغراض، سوى إقامة الحق، ودفع الظلم، كقوله تعالى: {كُونُواْ قوّامِين بِالْقِسْطِ شُهداء لله ولوْ على أنفُسِكُمْ} [النساء: 135]. انتهى.
وتدل الآية على حظر أخذ الأجرة على أداء الشهادة، ويؤيده قوله تعالى: {ذلِكُمْ يُوعظُ بِهِ من كان يُؤْمِنُ بِالله والْيوْمِ الْآخِرِ} فإن المشار إليه هو الحث على إقامة الشهادة لوجه الله، ولأجل القيام بالقسط، ويحتمل عوده على جميع ما في الآية.
{ومن يتّقِ الله يجْعل لّهُ مخْرجا}
{ويرْزُقْهُ مِنْ حيْثُ لا يحْتسِبُ ومن يتوكّلْ على الله فهُو حسْبُهُ إِنّ الله بالِغُ أمْرِهِ قدْ جعل الله لِكُلِّ شيْءٍ قدْرا} [3]
{ويرْزُقْهُ مِنْ حيْثُ لا يحْتسِبُ} قال الزمخشري: يجوز أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من إجراء أمر الطلاق على السنة، وطريقه الأحسن، والأبعد من الندم. ويكون المعنى: ومن يتق الله فطلّق للسنة، ولم يضارّ المعتدة، ولم يخرجها من مسكنها، واحتاط فأشهد، يجعل الله له مخرجا مما في شأن الأزواج من الغموم، والوقوع في المضايق، ويفرج عنه وينفس، ويعطه الخلاص، ويرزقه من وجه لا يخطره بباله ولا يحسبه، إن أو في المهر وأدّى الحقوق والنفقات، وقلّ ماله، ويجوز أن يجاء بها على سبيل الاستطراد عند ذكر قوله: {ذلِكُمْ يُوعظُ بِهِ} يعني: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ومخلصا من غموم الدنيا والآخرة. انتهى.
تنبيه:
قال ابن الفرس: قال أكثر المفسرين: معنى الآية في الطلاق أي: من لا يتعدى طلاق السنة إلى طلاق الثلاث يجعل له مخرجا إن ندم في الرجعة. قال: وهذا يستدل به على تحريم جمع الثلاث، وأنها إذا جمعت وقعت، نقله في (الإكليل).
وقال ابن القيم في(الإغاثة): اعلم أنه من اتقى الله في طلاقه، فطلّق كما أمره الله ورسوله وشرعه له، أغناه من الحيل كلها؛ ولهذا قال تعالى بعد أن ذكر حكم الطلاق المشروع: {ومن يتّقِ الله يجْعل لّهُ مخْرجا}، فلو اتقى الله عامةُ المطلقين لاستغنوا بتقواه عن الآصار والأغلال، والمكر والاحتيال، فإن الطلاق الذي شرعه الله سبحانه: أن يطلقها طاهرا من غير جماع، ويطلقها واحدة، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، فإن بدا له أن يمسكها في العدة أمسكها. وإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها أمكنه أن يستقبل العقد عليها من غير زوج آخر. وإن لم يكن له غرض لم يضره أن تتزوج بزوج غيره، فمن فعل هذا لم يندم، ولم يحتج إلى حيلة ولا تحليل؛ ولهذا سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة فقال: عصيت ربك، وفارقت امرأتك، لم تتق الله فيجعل لك مخرجا.
وقال سعيد بن جبير: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني طلّقت امرأتي ألفا. فقال: أما ثلاث، فتحرم عليك امرأتك، وبقيّتهن وزر، اتخذت آيات الله هزؤا.
قال مجاهد: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا، فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس! وإن الله تعالى قال: {ومن يتّقِ الله يجْعل لّهُ مخْرجا} وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، ذكره أبو داود. والبحث طويل الذيل لا يستغنى عن مراجعته.
{ومن يتوكّلْ على الله فهُو حسْبُهُ} أي: من يتوكل على ما شرعه، ويفوّض أمره إلى ما جعله المخرج، لأنه لا دواء أنجع منه {إِنّ الله بالِغُ أمْرِهِ} قرئ بالإضافة، أي: يبلغ ما أراد من أمره، فمن تيقن فوض أمره إليه، وعول عليه. وقرئ: {إِنّ الله بالِغ أمْرِهِ} أي: تام وكامل أمره وحكمه وشرعه، لما فيه من الحكم والرحمة {قدْ جعل الله لِكُلِّ شيْءٍ قدْرا} أي: حدّا وتقديرا، حسبما تقتضيه الحكمة. ومنه تقديره ما قدر في أمر الطلاق، مما بينه في شأنه وتوقيته، معرفة المخرج منه.
{واللائِي يئِسْن مِن الْمحِيضِ مِن نِّسائِكُمْ إِنِ ارْتبْتُمْ} أي: أشكل عليكم حكمهن، أو شككتم في الدم الذي يظهر منهن لكبرهن، أمن الحيض أو هو من الاستحاضة؟ {فعِدّتُهُنّ ثلاثةُ أشْهُرٍ واللائِي لمْ يحِضْن} أي: من الجواري لصغرهن إذا طلقهن أزواجهن بعد الدخول، فعدتهن ثلاثة أشهر. فحذف لدلالة المذكور عليه {وأُوْلاتُ الْأحْمالِ أجلُهُنّ} في انقضاء عددهن {أن يضعْن حمْلهُنّ} أي: ما في بطنهن. والآية عامة في المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن.
ويروى عن علي وابن عباس رضي الله عنهما أن الآية خاصة في المطلقات. وأما المتوفى عنها فعدتها آخر الأجلين.
قال ابن جرير: والصواب أنه عام في جميع أولات الأحمال، لأنه تعالى عمّ القول بذلك، ولم يخصص الخبر عن مطلقة دون متوفى عنها.
فإن قيل: إن سياق الخبر في أحكام المطلقات. يجاب: بأن نظمها خبر مبتدأ عن أحكام عدد جميع أولات الأحمال، المطلقات وغير المطلقات.
وفي الصحيحين عن أم سلمة أن سبيعة الأسلمية وضعت بعد موت زوجها بأربعين ليلة فخطبت، «فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم» وكان أبو السنابل فيمن خطبها.
{ومن يتّقِ الله} أي: فلم يخالف إذنه في طلاق امرأته {يجْعل لّهُ مِنْ أمْرِهِ يُسْرا} وهو تسهيل الرجعة ما دامت في عدتها، والقدرة على خطبتها، إن انقضت ودعته إليها بسبب التقوى.
{ذلِك} أي: ما ذكر من حكم الطلاق والرجعة والعدة {أمْرُ الله أنزلهُ إِليْكُمْ} أي: لتأتمروا له وتعملوا به {ومن يتّقِ الله يُكفِّرْ عنْهُ سيِّئاتِهِ ويُعْظِمْ لهُ أجْرا} أي: بالمضاعفة.
{أسْكِنُوهُنّ مِنْ حيْثُ سكنتُم مِّن وُجْدِكُمْ} أي: من سعتكم التي تجدون, وطاقتكم ومقدرتكم {ولا تُضارُّوهُنّ} أي: لا تستعملوا معهن الضرار {لِتُضيِّقُوا عليْهِنّ} أي: في المسكن ببعض الأسباب، من إنزال من لا يوافقهن، أو بشغل مكانهن، أو غير ذلك، حتى تضطروهن إلى الخروج أو الافتداء.
تنبيه:
قال في (الإكليل): الآية وجوب السكنى للمطلقات كلهن، وللبوائن، لتقدم سكنى الرجعيات، ولقوله بعده: {وإِن كُنّ أُولاتِ حمْلٍ فأنفِقُوا عليْهِنّ} فإنه خاص بالبوائن. وفيه أن الإسكان يعتبر بحال الزوج، وتحريم المضارة بها، وإلجائها إلى الخروج.
{وإِن كُنّ أُولاتِ حمْلٍ فأنفِقُوا عليْهِنّ حتّى يضعْن حمْلهُنّ} قال ابن جرير: أي: وإن كان نساؤكم المطلقات أولات حمل وكن بائنات منكم، فأنفقوا عليهن في عدتهن منكم حتى يضعن حملهن.
فعن ابن عباس في الآية قال: هذه المرأة يطلقها زوجها، فيبتّ طلاقها وهي حامل، فيأمره الله أن يسكنها، وينفق عليها حتى تضع، وإن أرضعت فحتى تفطم، وإن أبان طلاقها، وليس بها حبل، فلها السكنى حتى تنقضي عدتها، ولا نفقه. وكذلك المرأة يموت عنها زوجها فإن كانت حاملا أنفق عليها من نصيب ذي بطنها إذا كان ميراث، وإن لم يكن ميراث أنفق عليها الوارث حتى تضع وتفطم ولدها، كما قال الله عز وجل: {وعلى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِك} [البقرة: 233]. فإن لم تكن حاملا فإن نفقتها كانت من مالها.
ثم قال ابن جرير: وقال آخرون عنى بقوله: {وإِن كُنّ أُولاتِ حمْلٍ فأنفِقُوا عليْهِنّ حتّى يضعْن حمْلهُنّ} كل مطلقة، ملك زوجها رجعتها أو لم يملك، وممن قال ذلك عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما.
فعن إبراهيم قال: كان عمر وعبد الله يجعلان للمطلقة ثلاثا، السكنى والنفقة والمتعة. وكان عمر إذا ذكر عنده حديث فاطمة بنت قيس، أن النبي صلى الله عليه وسلم: «مرها أن تعتد في غير بيت زوجها». قال: ما كنا لنجيز في ديننا شهادة امرأة.
ثم قال ابن جرير: والصواب من القول في ذلك عندنا أن لا نفقة للمبتوته إلا أن تكون حاملا، لأن الله جل ثناؤه جعل النفقة بقوله: {وإِن كُنّ أُولاتِ حمْلٍ فأنفِقُوا عليْهِنّ} للحوامل دون غيرهن من البائنات من أزواجهن، ولو كان البوائن من الحوامل وغير الحوامل في الواجب من النفقة على أزواجهن سواء، لم يكن لخصوص أولات الأحمال بالذكر في هذا الموضع وجه مفهوم، إذ هن وغيرهن في ذلك سواء. وفي خصوصهن بالذكر دون غيرهن أدل الدليل على أن لا نفقة لبائن، إلا أن تكون حاملا، وبالذي قلنا صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: حدثتني فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس: أن أبا عمرو المخزومي طلقها ثلاثا، فأمر لها بنفقة فاستقلتها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن. فانطلق خالد بن الوليد في نفر، من بني مخزوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند ميمونة، فقال: يا رسول الله! إن أبا عمرو طلق فاطمة ثلاثا، فهل لها من نفقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس لها نفقة» فأرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن انتقلي إلى بيت أم شريك، وأرسل إليها أن لا تسبقيني بنفسك. ثم أرسل إليها أن أم شريك يأتيها المهاجرون الأولون، فانتقلي إلى ابن مكتوم، فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك. فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد. انتهى.
وقال الناصر في (الانتصاف): لا يخفى على المتأمل لهذه الآي أن المبتوتة غير الحامل، لا نفقة لها، لأن الآي سيقت لبيان الواجب، فأوجب السكنى لكل معتدة تقدم ذكرها، ولم يوجب سواها. ثم استثنى الحوامل فخصهن بإيجاب النفقة لهن حتى يضعن حملهن، وليس بعد هذا البيان بيان. والقول بعد ذلك بوجوب النفقة لكل معتدة مبتوتة، حاملا أو غير حامل، لا يخفى منافرته لنظم الآية.
والزمخشري نصر مذهب أبي حنيفة فقال: فائدة تخصيص الحوامل بالذكر أن الحمل ربما طال أمده، فيتوهم متوهم أن النفقة لا تجب بطوله فخصت بالذكر تنبيها على قطع هذا الوهم. وغرض الزمخشري بذلك أن يحمل التخصيص على هذه الفائدة كيلا يكون له مفهوم في إسقاط النفقة لغير الحوامل، لأن أبا حنيفة يسوي بين الجميع في وجوب النفقة. انتهى.
وفي (الإكليل): في الآية وجوب الإنفاق على البائن الحامل حتى تنقضي عدتها. ومفهومه أن غير الحامل لا نفقة لها. واستدل بعموم الآية من أوجبها للحامل المتوفى عنها. انتهى.
{فإِنْ أرْضعْن لكُمْ} يعني: نساءكم البوائن منكم {فآتُوهُنّ أُجُورهُنّ} أي: على رضاعهن {وأْتمِرُوا بيْنكُم بِمعْرُوفٍ} أي: ليقبل بعضكم من بعض ما أمر به من معروف، يعني: المجاملة والمسامحة في الإرضاع والأجر. والخطاب للآباء والأمهات.
تنبيه:
في (الإكليل): فيها أن الأم إذا طلبت إرضاعه بأجرة مثل، وجب على الأب دفعها إليها، وليس له أن يسترضع غيرها. وفيه دليل على أن الأم أولى بالحضانة.
قال إلكيا: وفيه دلالة على أن الأجرة إما تستحق بالفراغ من العمل. انتهى.
وفي قوله: {بِمعْرُوفٍ} طلب أن لا يماكس الأب، ولا تعاسر الأم، لأنه ولدهما معا، وهما شريكان فيه، وفي وجوب الإشفاق عليهن. قاله الزمخشري.
{وإِن تعاسرْتُمْ} أي: ضيق بعضكم على الآخر بالمشاحّة في الأجرة، أو طلب الزيادة ونحوه، {فستُرْضِعُ لهُ أُخْرى} قال ابن جرير: أي: فلا سبيل له عليها، وليس له إكراهها على إرضاعه، ولكنه يستأجر للصبيّ مرضعة غير أمه البائنة منه.
وقال الزمخشريّ: أي: فستوجد، ولا تعوز مرضعة غير الأم ترضعه. وفيه طرف من معاتبة الأم على المعاسرة، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى: سيقضيها غيرك. تريد: لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم. انتهى.
قال الناصر: وخص الأم بالمعاتبة، لأن المبذل من جهتها هو لبنها لولدها، وهو غير متمولّ ولا مضنون به في العرف، وخصوصا في الأم على الولد، ولا كذلك المبذول من جهة الأب، فإنه المال المضنون به عادة، فالأم إذا، أجدى باللوم، وأحق بالعتب. انتهى.
وفيه أيضا إشارة إلى معاتبة الأب أيضا، كما حققه بعضهم، وذلك أن الأب لما أسقط عن درجة الخطاب، وبين أن معاسرته لا تجدي، إذ لابد من مرضعة أخرى بأجر، وهذه أشفق منها، كان في حكم المعاتب المذكور في الجواب. وبه يندفع ما يقال: إن المعاسرة فعل الأب والأم، فكيف يخص الأم بالذكر في الجزاء. وحاصله أنهما مذكوران فيه، إلا أن الأم مصرح بها، والأب مرموز إليه. وتقدير ابن جرير يشير إليه أيضا.
تنبيه:
في (الإكليل): تدل على أن الأم لا تجبر على الرضاع حيث وجد غيرها، وقبل الصبي ثديها، وإلا أجبرت عليه.
قال ابن العربيّ: والآية أصل في وجوب نفقة الولد على الأب، خلافا لمن أوجبها عليهما معا.
{لِيُنفِقْ ذُو سعةٍ مِّن سعتِهِ} أي: من سعة ماله وغناه على امرأته البائنة في أجر رضاع ولده منها، وعلى ولده الصغير {ومن قُدِر عليْهِ رِزْقُهُ} أي: ضيق عليه {فلْيُنفِقْ مما آتاهُ الله} أي: على قدر ماله وطاقته {لا يُكلِّفُ الله نفْسا إِلّا ما آتاها} يعني: وسعها وطاقتها، فلا يكلف الفقير نفقة الغنيّ، ولا أحدا إلا فرضه الذي وجب عليه {سيجْعلُ الله بعْد عُسْرٍ يُسْرا} أي: سيؤتي المقلّ بعد ضيق فرجا، وبعد فقر غنى، تسلية للمعسرين من فُقراء الأزواج، وتصبير لمطلقاتهم، وتطيب لقلوب الجميع، وتبشّر عام.
تنبيه:
في (الإكليل): فيه أن النفقة يراعى فيها حال المنفق يسارا وإعسارا، وإن نفقة المعسر أقل من نفقة الموسر، لا حال المنفق عليه، واستدل بقوله: {لا يُكلِّفُ الله نفْسا إِلّا ما آتاها} من قال: لا فسخ بالعجز عن الإنفاق على الزوجة. وفي الآية استحباب مراعاة الْإِنْساْن نفسه في النفقة والصدقة. ففي الحديث: «إن المؤمن أخذ عن الله أدبا حسنا: إذا هو وسع عليه وسع، وإذا هو قتر عليه قتر». روى ابن جرير أن عمر بن الخطاب سأل عن أبي عبيدة فقيل له: إنه يلبس الغليظ من الثياب، ويأكل أخشن الطعام، فبعث إليه بألف دينار، وقال للرسول: انظر ماذا يصنع إذا هو أخذها، فما لبث أن لبس ألين الثياب، وأكل أطيب الطعام، فجاء الرسول فأخبره، فقال رحمه الله: تأول هذه الآية {لِيُنفِقْ ذُو سعةٍ مِّن سعتِهِ ومن قُدِر عليْهِ رِزْقُهُ فلْيُنفِقْ مما آتاهُ الله}
ثم حذر تعالى من عصيانه وتعدي حدوده فيما شرعه، عناية بما مرّ من الأحكام، بقوله سبحانه: {وكأيِّن مِّن قرْيةٍ عتتْ عنْ أمْرِ ربِّها} أي: أعرضت عنه على وجه العتوّ والعناد، {ورُسُلِهِ} أي: وعن أمر رسله كذلك {فحاسبْناها حِسابا شدِيدا} أي: على ما قدمت، فلم نغادر لها منه شيئا {وعذّبْناها عذابا نُّكْرا} أي: منكرا.
{فذاقتْ وبال أمْرِها} أي: عاقبة ما اكتسبت وجزاءه {وكان عاقِبةُ أمْرِها خُسْرا} قال ابن جرير: أي: غبنا، لأنهم باعوا نعيم الآخرة بخسيس من الدنيا قليل، وآثروا اتباع أهوائهم على اتباع أمرالله.
{أعدّ الله لهُمْ عذابا شدِيدا} يعني عذاب النار المعدّ في القيامة {فاتّقُواْ الله} أي: خافوه واحذروا بطشه بأداء فرائضه. واجتناب معاصيه {ياْ أُولِيْ الألْبابِ} أي: العقول {الّذِين آمنُوا} أي: صدقوا الله ورسله. نعت للمنادى، أو عطف بيان له {قدْ أنزل الله إِليْكُمْ ذِكْرا}
{رّسُولا يتْلُو عليْكُمْ آياتِ الله مُبيِّناتٍ لِّيُخْرِج الّذِين آمنُوا وعمِلُوا الصّالِحاتِ مِن الظُّلُماتِ إِلى النُّورِ ومن يُؤْمِن بِالله ويعْملْ صالِحا يُدْخِلْهُ جنّاتٍ تجْرِي مِن تحْتِها الْأنْهارُ خالِدِين فِيها أبدا قدْ أحْسن الله لهُ رِزْقا} [11]
يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، وجعله نفس الذكر مبالغة، لذلك أبدل منه {يتلوا عليكم ايات الله مبينات} أي: لمن سمعها وتدبرها أنها حق من عند الله {لِّيُخْرِج الّذِين آمنُوا وعمِلُوا الصّالِحاتِ مِن الظُّلُماتِ إِلى النُّورِ} أي: من الضلال إلى الهدى {ومن يُؤْمِن بِالله ويعْملْ صالِحا يُدْخِلْهُ جنّاتٍ تجْرِي مِن تحْتِها الْأنْهارُ خالِدِين فِيها أبدا قدْ أحْسن الله لهُ رِزْقا} أي: طيبه، وفيه تعجيب له وتعظيم.
{الله الّذِي خلق سبْع سماواتٍ ومِن الْأرْضِ مِثْلهُنّ} أي: المعبود المستحق للعبادة، من هذا خلقه، لا ما يشرك معه. وهاهنا لطائف:
الأولى: قال الزمخشريّ: قيل ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه. انتهى.
قال بعض علماء الفلك: أما كون الأرضين سبعا كالسماوات، فهو أمر نجهله ولا نفهمه إلا إذا أريد به أن للأرض سبع طبقات، قال: والحق يقال أن كون الأرضين سبعا، وهو كما يظهر لنا وهم من أوهام القدماء، ولذلك لم يرد في القرآن الشريف لفظ الأرض مجموعا- أي: أرضين- ولم يرد فيه مطلقا أن الأرضين سبع، مع أنه ذكر أن السماوات سبع، مرارا عديدة وفي كل مرة يذكر معها الأرض بالأفراد. نعم! ورد فيه قوله تعالى: {الله الّذِي خلق سبْع سماواتٍ ومِن الْأرْضِ مِثْلهُنّ} وهي الآية الوحيدة التي فهموا منها أن الأرضين سبع. وهي كما لا يخفى لا تفيد ذلك مطلقا.
قال: ولنا في تفسيرها وجهان:
أما أن تكون {منِ} في قوله تعالى: {ومِن الْأرْضِ} زائدة، وإما أن تكون غير زائدة.
أما على الوجه الأول: فتقدير الآية هكذا: الله الذي خلق سبع سماوات والأرض خلقها مثلهن. وعلى تفسيرنا هذا تكون هذه الآية دالة على أن الأرض خلقت كباقي الكواكب السيارة من كل وجه. أي: أنها إحدى السيارات، وهو أمر ما كان معروفا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان يخطر ببال أحد من العرب، وذلك من دلائل صدق القرآن. والأرض مثل السيارات الأخرى في المادة، وكيفية خلقها، وكونها تسير حول الشمس، وتستمد النور والحرارة منها، وكونها مسكونة بحيوانات كالكواكب الأخرى، وكونها كروية الشكل، فالسيارات أو السماوات هي متماثلة من جميع الوجوه، وكلها مخلوقة من مادة واحدة، وهي مادة الشمس، وعلى طريقة واحدة، قال الله تعالى: {أولمْ ير الّذِين كفرُوا أنّ السّماواتِ والْأرْض كانتا رتْقا} [الأنبياء: 30]. أي: شيئا واحدا {ففتقْناهُما} أي: فصلنا بعضهما عن بعض، فالأرض خلقها الله تعالى مثل السماوات تماما.
وأما على الوجه الثاني: وهو أن {منِ} غير زائدة، فتقدير الآية هكذا: الله الذي خلق سبع سماوات وخلق من الأرض أرضا مثلهن، فالآية واردة على طريقة التجريد، كقولك: اتخذت لي سبعة أصدقاء، ولي من فلان صديق مثلهم. أي: مثلهم في الصداقة. أو التقدير: وبعض الأرض مثلهن في مادتها وعناصرها. وعليه، فليس في القرآن الشريف أدنى دليل على أن الأرضين سبع كما يزعمون. انتهى.
الثانية: ذكر ابن الأثير في (المثل السائر) في النوع السادس، في اختلاف صيغ الألفاظ واتفاقها وتفاوتها في الحسن فيه، ما مثاله:
وفي صدد ذلك ما ورد استعماله من الألفاظ مفردا، ولم يرد مجموعا، كلفظة الأرض، فإنها لم ترد في القرآن إلا مفردة. فإذا ذكرت السماء مجموعة جيء بها مفردة معها في كل موضع من القرآن. ولما أريد أن يؤتى بها مجموعة قيل:
{ومِن الْأرْضِ مِثْلهُنّ} في قوله تعالى: {الله الّذِي خلق سبْع سماواتٍ ومِن الْأرْضِ مِثْلهُنّ} انتهى.
الثالثة: قرئ {مِثْلهُنّ} بالنصب، عطفا على {سبْع} بالرفع على الابتداء، وخبره {مِّن الأرْضِ}
{يتنزّلُ الْأمْرُ بيْنهُنّ} أي: يجري أمر الله وحكمه بينهن، وملكه ينفذ فيهن. وقوله: {لِتعْلمُوا أنّ الله على كُلِّ شيْءٍ قدِيرٌ وأنّ الله قدْ أحاط بِكُلِّ شيْءٍ عِلْما} علة لـ {خلق} ولـ {يتنزّلُ} أو لمضمر يعمهما، كفعل ما فعل لتعلموا... إلخ، فإن كلا منها يدل على كمال قدرته وعلمه.
قال ابن جرير: أي: فخافوا أيها الناس المخالفون أمر ربكم، عقوبته، فإنه لا يمنعه من عقوبتكم مانع. وهو على ذلك قادر ومحيط أيضا بأعمالكم فلا يخفى عليه منها خاف. وهو محصيها عليكم ليجازيكم به، يوم تجزى كل نفس ما كسبت. اهـ.